كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ يُقَالُ: إِذَا كَانَ الْمُنْقَطِعُ لِعُلُومِ الدِّينِ لَا يَأْمَنُ عَلَى عَقِيدَتِهِ أَنْ تَذْهَبَ وَدِينِهِ أَنْ يَفْسُدَ إِذَا هُوَ تَفَكَّرَ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَعَرَفَ الْعُلُومَ الَّتِي لَا تَقُومُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ بِدُونِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ يَدْرُسُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الدُّنْيَوِيَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ آفَةُ الْعُمْرَانِ، وَعَدُوُّ الْعِلْمِ وَالنِّظَامِ، وَهُوَ قَضَاءٌ جَائِرٌ يُبْطِلُهُ الْقُرْآنُ، وَتَنْقُضُهُ سِيرَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَتَّبِعُهُمَا الْآنَ؟! وَقَدْ قَامَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي كِتَابِ اللهِ مَرَّةً نَظْرَةَ مُعْتَبِرٍ، وَلَمْ يَتْلُوا مِنْهُ آيَةً تِلَاوَةَ مُفَكِّرٍ مُتَدَبِّرٍ، يَقْسِمُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَا تَجِبُ الْمُبَالَاةُ بِدِينِهِ، وَلَا يُهْتَمُّ بِهِ فِي شَكِّهِ أَوْ يَقِينِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَشَاءُ صَحَّتْ عَقِيدَتُهُ أَوْ فَسَدَتْ، صَلَحَتْ أَعْمَالُهُ أَوْ خَسِرَتْ. وَقِسْمٌ آخَرُ يَجِبُ أَنْ يُصَانَ عَقْلُهُ عَنْ كُلِّ فِكْرٍ، وَيُحَاطَ بِجَمِيعِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تَمْنَعُهُ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا عَلَيْهِ النَّاسُ مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا يَعْرِضُ فِي الْكَوْنِ مَنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، كَيْلَا يُفْسِدَ النَّظَرُ عَقِيدَتَهُ، وَيُضِلَّ الْفِكْرُ السَّلِيمُ بَصِيرَتَهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي تُفَوَّضُ إِلَيْهِ الرِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ، وَيُعْهَدُ إِلَيْهِ بِقِيَادَةِ الْأُمَّةِ فِي صَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَانْتِظَامِ الْأَحْوَالِ، وَأَعْظَمُ قِسْمٍ فِي الْأُمَّةِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ، بَلْ هُوَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا بِالتَّقْرِيبِ، وَقَدْ صَارَ بِيَدِهِ زِمَامُ جَمِيعِ أُمُورِهَا وَقُوَّةُ الْحُكْمِ فِيهَا؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَيَسَّرَ لِهَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ خَلْوٌّ مِنَ الْعِلْمِ بِحَالِهَا، وَدُونَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْعَقْلِ، وَفَوْقَهُ فِي الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ، أَنْ يَقُودَ وَاحِدًا مِنْهَا، بَلْهَ قِيَادَتَهَا كُلَّهَا؟ فَهَلْ يَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا لِلْخَلَفِ، مَعَ شَيْءٍ مِنْ سُنَّةِ السَّلَفِ؟ أَلَا عَاقِلٌ يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشَعْوِذِينَ: كَيْفَ سَاغَ فِي عُقُولِكُمْ أَنْ يُسَلَّمَ إِلَى الْجَاهِلِ قِيَادَةُ الْعَاقِلِ؟ وَكَيْفَ يَتَيَسَّرُ حِفْظُ الدِّينِ بِالْعُدُولِ عَنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَمُخَالَفَةِ سَيْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ؟
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} إِلَخْ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [17: 34] وَ{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [4: 10] الْآيَةَ. انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ لَهُ الشَّيْءُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسَدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الْآيَةَ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ.
نَعَمْ إِنَّ آيَاتِ الْوَصِيَّةِ فِي الْيَتَامَى كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا نَزَلْ فِي مَكَّةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [17: 34].
فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [93: 9] فِي سُورَةِ الضُّحَى، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [107: 2] فِي سُورَةِ الْمَاعُونِ، جَعَلَ دَعَّ الْيَتِيمِ- وَهُوَ دَفْعُهُ وَجَرُّهُ بِعُنْفٍ- أَوَّلَ آيَاتِ التَّكْذِيبِ بِالدِّينِ.
وَأَجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَآكَدُهُ آيَاتُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كَسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [4: 10] وَلَكِنَّ سُورَتَهَا نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَدْ كَانَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ تَعَالَى، وَيَأْخُذُونَ الْقُرْآنَ بِقُوَّةٍ؛ لِأَنَّهُمْ لِبَلَاغَتِهِمْ يَفْهَمُونَ الْوَعِيدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَتُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الذِّكْرَى وَالْعِظَةِ مَا لَا يَجِدُ مِثْلَهُ مَنْ لَمْ يُؤْتَ بَلَاغَتَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِبَلَاغَتِهِمْ أَنَّهُمْ قَرَءُوا عِلْمَ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ فَحَفِظُوا فِي أَذْهَانِهِمْ عِلَلًا كَثِيرَةً لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَقَاصِدُ الْكَلَامِ وَمَغَازِيهِ تَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ الْقُلُوبِ كَمَا يَغُوصُ الْمَاءُ فِي الْإِسْفَنْجِ، فَلَا تَدَّعِ فِيهَا مَكَانًا يَتَعَاصَى عَلَى تَأْثِيرِهَا كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. هَذَا الِاتِّعَاظُ وَالِاعْتِبَارُ بِوَصَايَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي الْيَتَامَى قَدْ مَلَكَ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَهُمْ فِي حَيْرَةٍ وَحَرَجٍ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْلَالِ أَمْوَالِهِمْ؛ خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ فِي آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا نَقَصَ مِنَ الْحَقِّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [18: 33] فَإِذَا اخْتَلَطَ اثْنَانِ فِي النَّفَقَةِ وَأَكَلَ أَحَدُهُمَا مِمَّا اشْتَرَى بِمَالِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ رَاشِدًا فَرِضَاهُ وَلَوْ بِالْعُرْفِ أَوِ الْقَرِينَةِ إِذَنْ يُبِيحُ هَذَا التَّنَاوُلَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخَلِيطُ يَتِيمًا فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ مَظِنَّةَ الظُّلْمِ أَوْ هِيَ مِنْهُ حَتْمًا؛ وَلِذَلِكَ تَأَثَّمَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِتَسَامُحِ النَّاسِ فِي مُؤَاكَلَةِ الْخُلَطَاءِ وَالشُّرَكَاءِ مِنْ غَيْرِ تَدْقِيقٍ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَأْبَى الْقِيَامَ عَلَى الْيَتِيمِ، وَبَعْضُهُمْ يَعْزِلُ الْيَتِيمَ عَنْ عِيَالِهِ فَلَا يُخَالِطُونَهُ فِي شَيْءٍ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَطْبُخُونَ لَهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ فَطِنُوا إِلَى أَنَّ هَذَا- عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ عَلَيْهِمْ- لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْيَتِيمِ بَلْ هُوَ مَفْسَدَةٌ لَهُ فِي تَرْبِيَتِهِ وَمَضْيَعَةٌ لِمَالِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْقَهْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَا لَا يَخْفَى؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ كَالْكَلْبِ، أَوِ الدَّاجِنِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ. وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الْحَيْرَةُ وَاحْتِيجَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّوْحِيدِ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، بِأَنْ يَعِيشَ الْيَتِيمُ فِي بَيْتِ كَافِلِهِ عَزِيزًا كَرِيمًا كَأَحَدِ عِيَالِهِ، وَيَسْلَمَ الْكَافِلُ مِنْ أَكْلِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ أَنْ أَنْزَلَ الْوَحْيَ فِي إِزَالَةِ الْحَيْرَةِ وَكَشْفِ الْغُمَّةِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ} لِهَؤُلَاءِ السَّائِلِينَ عَنِ الْقِيَامِ عَلَى الْيَتَامَى وَكَفَالَتِهِمْ، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي عَزْلِهِمْ أَوْ مُخَالَطَتِهِمْ {إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} يَعْنِي أَيَّ إِصْلَاحٍ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ فَلَا تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمَّا تَعْلَمُونَ أَنَّ فِيهِ صَلَاحًا لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مِنْ تَرْبِيَةٍ وَتَهْذِيبٍ، هَذَا مَا أَفَادَهُ تَنْكِيرُ {إِصْلَاحٌ} وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ لِرُؤْيَتِكُمُ الْخَيْرَ لَهُمْ فِي الْمُخَالَطَةِ فِي الْمَعِيشَةِ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا شَأْنُ الْإِخْوَانِ الْمُخَالَطَةُ فِي الْمُعَاشَرَةِ.
وَقَدْ أَزَالَتِ الْكَلِمَةُ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْجَوَابِ الْوَجِيزِ شُبْهَةَ الْمُتَأَثِّمِينَ مِنْ كَفَالَتِهِمْ، وَكَشَفَتِ الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ شُبْهَةَ الْقُوَّامِ الْمُتَحَرِّجِينَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ، وَمِنْ هَذَا الْجَوَابِ عَرَفْنَا حَقِيقَةَ السُّؤَالِ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ.
أَمَّا مَعْنَى كَوْنِ الْإِصْلَاحِ لَهُمْ خَيْرًا فَهُوَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِهِمْ بِالتَّهْذِيبِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَإِصْلَاحِ أَمْوَالِهِمْ بِالتَّثْمِيرِ وَالتَّنْمِيَةِ، هُوَ خَيْرٌ مِنْ إِهْمَالِ شَأْنِهِمْ وَتَرْكِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ تَفْسُدُ أَخْلَاقُهُمْ وَتَضِيعُ حُقُوقُهُمْ، خَيْرٌ لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِهِمْ، وَخَيْرٌ لِلْقُوَّامِ وَالْكَافِلِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ دَرْءِ مَفْسَدَةِ إِهْمَالِهِمْ، وَمِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فِي صَلَاحِ حَالِهِمْ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْقُدْوَةِ فِي الدُّنْيَا، وَحُسْنِ الْمَثُوبَةِ فِي الْأُخْرَى. قَالَ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْكَلَامُ يَجْمَعُ النَّظَرَ فِي صَلَاحِ مَصَالِحِ الْيَتِيمِ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَغَيْرِهَا لِكَيْ يَنْشَأَ عَلَى عِلْمٍ وَأَدَبٍ وَفَضْلٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّنْعَ أَعْظَمُ تَأْثِيرٍ فِيهِ مِنْ إِصْلَاحِ حَالِهِ بِالتِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا إِصْلَاحُ مَالِهِ كَيْ لَا تَأْكُلَهُ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [4: 2].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّأَثُّمِ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَكْسِبِ، فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِخْوَةِ أَنْ يَكُونُوا خُلَطَاءَ وَشُرَكَاءَ فِي الْمِلْكِ وَالْمَعَاشِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، بَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ الْجَمِيعِ، وَالْمُخَالَطَةُ مَبْنِيَّةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمُسَامَحَةِ لِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الطَّمَعِ وَتَحَقُّقِ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ الْيَتِيمُ فِي الْبَيْتِ كَالْأَخِ الصَّغِيرِ تُرَاعَى مَصْلَحَتُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيُتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ فِي كِفَّتِهِ الرُّجْحَانُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ الْمُصَاهَرَةُ، وَأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ عِلَّةٌ لِحِلِّهَا، وَقَدْ أَطَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي تَرْجِيحِ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهَذَا الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ كَالْإِخْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَوْدَعَ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ مِنَ الْحُبِّ وَالْإِخْلَاصِ لِلْأَقْرَبِينَ، وَقَدْ طَرَأَ الْفَسَادُ عَلَى هَذِهِ الرَّابِطَةِ النِّسْبِيَّةِ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ بِمَا أَفْسَدَتِ السِّيَاسَةُ فِي الْأُمَّةِ، فَصَارَ الْأَخُ يَطْمَعُ فِي مَالِ أَخِيهِ، وَيَحْفِرُ لَهُ مِنَ الْمَهَاوِي مَا لَعَلَّهُ هُوَ يَقَعُ فِيهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَسَدَتْ طِبَاعُهُمْ وَاعْتَلَّتْ خَلَائِقُهُمْ لَا يُوكَلُ إِلَيْهِمُ الرُّجُوعُ إِلَى الْفِطْرَةِ وَتَحْكِيمِهَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى كَالْإِخْوَةِ؛ لِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ حَتَّى وَضَعَ لِلضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ قَاعِدَةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَقَالَ: {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أَيْ: إِنَّهُ لَمْ يَكِلْ أَمْرَ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى إِلَى حُكْمِ نَزْعَةِ الْقَرَابَةِ وَعَاطِفَةِ الْأُخُوَّةِ مِنْ قُلُوبِكُمْ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُضْمِرُ هَذِهِ الْقُلُوبُ مِنْ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ لَهُمْ أَوِ الْإِفْسَادِ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُرَاقِبُوهُ فِي أَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ، وَتَعْلَمُوا أَنْ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى مِثْقَالِ الذَّرَّةِ مِمَّا تَعْمَلُونَ لَهُمْ. وَالْمُصْلِحُ: هُوَ مَنْ يَأْتِي بِالْإِصْلَاحِ عَمَلًا، وَالْمُفْسِدُ: هُوَ مَنْ يَأْتِي بِالْإِفْسَادِ فِعْلًا، وَحَالُ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَإِنَّمَا أَيْقَظَ اللهُ تَعَالَى الْقُلُوبَ إِلَى ذِكْرِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لِتُلَاحِظَ اطِّلَاعَهُ عَلَى الْعَمَلِ، وَتَتَذَكَّرَ جَزَاءَهُ عَلَيْهِ فَتُرَاقِبَهُ فِيمَا خَفِيَ مِنْهُ، لَعَلَّهَا تَأْمَنُ مِنْ مَزَالِقِ الشَّهْوَةِ، وَتَسْلَمُ مِنْ مَزَالِّ الشُّبْهَةِ؛ فَإِنَّ شَهْوَةَ الطَّامِعِ تُولِدُ لِصَاحِبِهَا شُبْهَةَ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، كَمَا يَأْكُلُ صَاحِبُهَا مَالَ أَخِيهِ الضَّعِيفِ، وَلَا عَاصِمَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَقْوَاهُ. وَإِلَّا فَإِنَّنَا نَرَى أَكْثَرَ الْأَوْصِيَاءِ عَلَى الْأَيْتَامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُظْهِرُونَ لِلْمَلَأِ إِصْلَاحَ أَحْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرَ أَمْوَالِهِمْ، مَعَ الْعِفَّةِ وَالزَّهَادَةِ فِيهَا، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ يَأْكُلُونَهَا أَكْلًا لَمًّا، حَتَّى إِنَّ وَاحِدَهُمْ يُصْبِحُ غَنِيًّا بَعْدَ فَقْرٍ وَلَا عَمَلَ لَهُ إِلَّا الْقِيَامُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَالْأُجْرَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَهُ عَلَى الْوِصَايَةِ لَا غَنَاءَ فِيهَا فَيَكُونُ غَنِيًّا بِهَا. وَكُلُّ مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ وَيَسْعَى لِذَلِكَ سَعْيَهُ فَهُوَ مَوْضِعٌ لِلظِّنَّةِ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَرْضَى بِمَا يُفْرَضُ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَسَيَأْتِي مَا يَحِلُّ لِلْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَحْرُمُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَّتَهُ عَلَيْنَا وَرَحْمَتَهُ بِنَا بِمَا أَذِنَ لَنَا مِنْ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى فَقَالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} أَيْ: أَوْقَعَكُمْ فِي الْعَنَتِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَمَا يَصْعُبُ احْتِمَالُهُ، بِأَنْ يُكَلِّفَكُمُ الْقِيَامَ بِشُئُونِ الْيَتَامَى وَتَرْبِيَتِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَأْذَنُ لَكُمْ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَلَا بِأَكْلِ لُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لِسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [22: 78] وَلِذَلِكَ أَبَاحَ لَكُمْ مُخَالَطَةَ الْيَتَامَى عَلَى أَنْ تُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ، وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَقَدْ عَفَا عَمَّا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى التَّسَامُحِ فِيهِ لِعَدَمِ اسْتِغْنَاءِ الْخُلَطَاءِ عَنْهُ، وَوَكَلَ ذَلِكَ إِلَى ذِمَّتِكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِمُرَاقَبَتِهِ فِيهِ، وَهُوَ الرَّقِيبُ الْمُهَيْمِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِكُمْ وَلَا مِنْ قَصْدِكُمْ وَنِيَّتِكُمْ. {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فَلَوْ شَاءَ إِعْنَاتَكُمْ لَعَزَّ عَلَى غَيْرِهِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ لَا عِزَّةَ تَعْلُو عِزَّتَهُ، وَلَكِنْ مَضَتْ حِكْمَتُهُ بِأَنْ تَكُونَ شَرِيعَتُهُ جَامِعَةً لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، جَارِيَةً عَلَى سُنَنِ الْفِطْرَةِ الْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا.
هَكَذَا جَعَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ذِكْرَ {الْعَزِيزِ} فِي هَذَا الْمَقَامِ لِتَقْرِيرِ إِمْكَانِ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ بِالْإِعْنَاتِ، وَذِكْرَ {الْحَكِيمِ} لِتَقْرِيرِ التَّفَضُّلِ بِعَدَمِ تَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ بِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ تَقْرِيرًا لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ فِي الْآيَتَيْنِ: مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَمَسْأَلَةُ الْإِنْفَاقِ، وَمَسْأَلَةُ الْيَتَامَى، فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْآيَاتِ مَعْطُوفًا آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ بِمَنْعِ النَّاسِ بَعْضَ الشَّهَوَاتِ، وَبِتَكْلِيفِهِمُ الْإِنْفَاقَ مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَبِتَكْلِيفِهِمْ تَحَرِّي الْإِصْلَاحِ لِلْأَيْتَامِ مَعَ الْإِذْنِ بِمُخَالَطَتِهِمْ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَلَّفَهُمْ مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ، وَأَنْ هَدَاهُمْ إِلَى وَجْهِ مَنْفَعَةِ النَّافِعِ وَمَضَرَّةِ الضَّارِّ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: النُّكْتَةُ فِي وَصْلِ السُّؤَالِ عَنِ الْيَتَامَى بِالسُّؤَالِ عَنِ الْإِنْفَاقِ وَالسُّؤَالِ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَانِكَ السُّؤَالَانِ مَبْنِيَّيْنِ لِحَالِ فَرِيقَيْنِ مِنَ النَّاسِ فِي الْإِنْفَاقِ وَبَذْلِ الْمَالِ- عَلَى مَا تَقَدَّمَ- نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُمَا السُّؤَالَ عَنْ صِنْفٍ هُوَ مِنْ أَحَقِّ أَصْنَافِ النَّاسِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِ وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِ وَهُوَ صِنْفُ الْيَتَامَى، وَلَيْسَ التَّرْغِيبُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ بِبَعِيدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُذَكِّرُنَا عِنْدَ الْإِذْنِ بِمُخَالَطَةِ الْيَتَامَى وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِصْلَاحِ لَهُمْ بِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمَا نُنْفِقُهُ مِنَ الْعَفْوِ الزَّائِدِ عَنْ حَاجَاتِنَا؛ فَلَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَعْكِسَ الْقَضِيَّةَ وَنَطْمَعَ فِي فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ قَاصِرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ دِفَاعًا عَنْ حُقُوقِهِمْ، وَلَا ذَوْدًا عَنْ مَصَالِحِهِمْ، فَجَمَعَ الْأَسْئِلَةَ الثَّلَاثَةَ فِي الْآيَتَيْنِ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالِالْتِئَامِ.
وَتَرَوْنَ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابِهِ كَيْفَ كَانَتْ عِنَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِفْظِ أَحْكَامِ اللهِ وَاتِّقَاءِ اعْتِدَاءِ حُدُودِهِ، وَكَيْفَ شَدَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ فِي شَأْنِ الْيَتَامَى، فَلَمْ يَأْذَنْ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَلَا بِمُخَالَطَتِهِمْ إِلَّا مُخَالَطَةِ أُخُوَّةٍ، وَكَيْفَ وَجَّهَ الْقُلُوبَ مَعَ هَذَا إِلَى مُرَاقَبَتِهِ، وَالتَّذَكُّرِ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، ثُمَّ تَرَوْنَ كَيْفَ اتَّخَذَ النَّاسُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسِيلَةً لِلتَّلَذُّذِ بِنَغَمَاتِ قَارِئِيهَا، أَوْ لِلتَّعَبُّدِ بِأَلْفَاظِهَا دُونَ الِاهْتِدَاءِ بِمَعَانِيهَا، وَمَنْ أَخَذَتْهُ هِزَّةٌ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فَإِنَّهَا لَا تَلْبَثُ أَنْ تَزُولَ، ثُمَّ هُوَ لَا يَزُولُ عَنْ إِفْسَادِهِ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى رَشَادِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَزَيَّا بِزِيِّ الْمُتَّقِينَ، وَيَظْهَرُ فِي صُورَةِ الصَّالِحِينَ، وَيُكْثِرُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتِّلَاوَةِ، وَحُضُورِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى إِذَا مَا جُعِلَ وَصِيًّا عَلَى يَتِيمٍ لَا تَرَى لِذَلِكَ التَّحَنُّثِ أَثَرًا فِي عَمَلِهِ، وَلَا ذَلِكَ السَّمْتِ حَائِلًا دُونَ زَلَلِهِ، فَهُوَ إِنْ أَصْلَحَ شَيْئًا يُفْسِدُ أَشْيَاءَ، وَلَا يُرَاقِبُ اللهَ وَلَكِنْ يُرَاقِبُ الْحِسْبَةَ وَالْقَضَاءَ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ صَارَ تَقَالِيدَ صُورِيَّةً، وَحَرَكَاتٍ بَدَنِيَّةً، لَيْسَ لَهُ مَنْبَعٌ فِي الْقُلُوبِ، وَلَا أَثَرٌ صَالِحٌ فِي الْأَعْمَالِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَبْدَانِ، وَلَا يَعْبَأُ بِالْحَرَكَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ صَلَاحِهَا مِنْ خَيْرٍ وَإِصْلَاحٍ.
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
الْآيَاتُ فِي سَرْدِ الْأَحْكَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا حَاجَةَ لِرَبْطِ كُلِّ آيَةٍ بِمَا قَبْلَهَا، وَالرَّبْطُ ظَاهِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَالَطَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ نِكَاحُ الْيَتَامَى. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْوَاحِدِيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ابْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَنَاقٍ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُشْرِكَةٌ وَكَانَتْ ذَاتَ حَظٍّ مِنْ جَمَالٍ فَنَزَلَتْ. يَعْنِي {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ذَكَرَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، ثُمَّ قَالَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ} الْآيَةَ. أَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ وَأَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهَا فَلَطَمَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: لَأَعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا. فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ وَقَالُوا: يَنْكِحُ أَمَةً! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ مُنْقَطِعًا.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ} إِلَى {أَعْجَبَتْكُمْ} آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ نَزَلَتْ فِي حَادِثَةٍ غَيْرِ الْحَادِثَةِ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهَذَا الظَّاهِرُ مِنْ صَنِيعِهِ خَفِيٌّ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ وَاحِدَةٌ، نَزَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَى بَيَانِ أَحْكَامِهَا، وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ حُدُوثِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ.
وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا مِنْ غِنَى يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ حَلِيفًا لِبَنِي هَاشِمٍ إِلَى مَكَّةَ لِيُخْرِجَ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا أَسْرَى، فَلَمَّا قَدِمَهَا سَمِعَتْ بِهِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ، وَكَانَتْ خَلِيلَةً لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَعْرَضَ عَنْهَا فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: وَيْحَكَ يَا مَرْثَدُ أَلَا تَخْلُو؟ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ وَحَرَّمَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتِ تَزَوَّجْتُكِ. فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِذَا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجْتُكِ، فَقَالَتْ لَهُ: أَبِي تَتَبَرَّمُ؟ ثُمَّ اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ فَضَرَبُوهُ ضَرْبًا وَجِيعًا ثُمَّ خَلُّوا سَبِيلَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ بِمَكَّةَ انْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا وَأَعْلَمَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ عَنَاقَ وَمَا لَقِيَ بِسَبَبِهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَهَا؟ وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهَا تُعْجِبُنِي فَنَزَلَتْ وَتَعْقَّبَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ فِي نُزُولِ آيَةِ النُّورِ {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [24: 3] وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ هَذِهِ «نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَكَانَتْ لَهُ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنَّهُ غَضِبَ عَلَيْهَا فَلَطَمَهَا ثُمَّ إِنَّهُ فَزِعَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هِيَ يَا عَبْدَ اللهِ؟ قَالَ: هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ هِيَ مُؤْمِنَةٌ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَعْتِقَنَّهَا وَلَأَتَزَوَّجَنَّهَا، فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: نَكَحَ أَمَةً» وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُنْكِحُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَيَنْكِحُوهُمْ رَغْبَةً فِي أَنْسَابِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا تَنْكِحُوا} الْآيَةَ.
انْتَهَى سِيَاقُ الألوسي وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ سِيَاقِ السُّيُوطِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُفَصَّلٌ وَذَاكَ مُخْتَصَرٌ اخْتِصَارًا أَوْهَمَ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ} إِلَخْ.
عَلَى أَنَّ السُّيُوطِيَّ قَالَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: إِنَّ الصَّحَابَةَ يَذْكُرُونَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَذَا وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ إِلَّا تَفْسِيرَهَا؛ أَيْ: إِنَّ مَعْنَاهَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ، وَإِذَا ذَكَرُوا أَسْبَابًا فَقَدْ يَعْنُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَقِبَهَا.
وَالألوسي يَقُولُ: إِنَّ السُّيُوطِيَّ تَعَقَّبَ الْوَاحِدِيَّ فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِهِ هَذَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا التَّعَقُّبِ، عَلَى أَنَّهُ حَوَى كِتَابَ الْوَاحِدِيِّ وَزِيَادَاتٍ، وَأَمَّا آيَةُ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [24: 3] فَقَدْ ذَكَرَ لَهَا السُّيُوطِيُّ سَبَبَيْنِ، أَحَدُهُمَا: «أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمَّ مَهْزُولٍ كَانَتْ تُسَافِحُ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَالثَّانِي: «أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مَزِيدٌ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِمَكَّةَ صَدِيقَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ- وَفِي حَدِيثِهِ عَنْهُمَا مَقَالٌ- وَقَدْ رَوَى الْأَوَّلَ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ، وَقَوْلُهُ هُنَا مَزِيدٌ مُصَحَّفٌ وَالصَّوَابُ مَرْثَدٌ. وَنِكَاحُ الْبَغَايَا كَانَ فَاشِيًا، وَالْمَشْهُورَاتُ مِنْهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَثِيرَاتٌ، وَقَدْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الْآنَ مُتَّفِقٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ فِيهَا غَيْرُ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ عَامٌّ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَا هُمْ عَلَيْهِ شِرْكٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ عَقَائِدِهِمْ: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [9: 31] وَاسْتَدَلُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [4: 48] وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ لَجَازَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ مُشْرِكَاتُ الْعَرَبِ اللَّاتِي لَا كِتَابَ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ عُرْفُ الْقُرْآنِ فِي لَقَبِ الْمُشْرِكِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [2: 105] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [98: 1] وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ مَنْ يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحَصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [5: 5] وَهِيَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ وَلِذَلِكَ ذَهَبَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكَاتِ شَامِلٌ لِلْكِتَابِيَّاتِ إِلَّا أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَسَخَتْ آيَةَ الْبَقَرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمُ الْجَلَالُ: إِنَّهَا خَصَّصَتْهَا بِغَيْرِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ هِيَ النَّاسِخَةُ لِآيَةِ الْمَائِدَةِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ إِلَى التَّأْوِيلِ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا أَسْلَمْنَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْقَيْدِ الْمَحْذُوفِ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكَاتِ إِذَا أَسْلَمْنَ يَحِلُّ نِكَاحُهُنَّ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ؟
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمَجُوسِ فَقِيلَ: يَدْخُلُونَ فِي الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَقَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [22: 17] فَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ. وَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ وَلَا حَاجَةَ لِلْبَحْثِ فِي ذَلِكَ هُنَا.
أَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْآخَرُونَ عَلَى شِرْكِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [9: 31] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [4: 48] الْآيَةَ فَقَدْ أَجَابُوهُمْ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: {يُشْرِكُونَ} لَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَشْتَقُّ لَهُمْ مِنْهُ وَصْفًا يَكُونُ عُنْوَانًا لَهُمْ فَيَدْخُلُوا فِي صِنْفِ مَنْ يُسَمِّيهِمُ الْقُرْآنُ بِالْمُشْرِكِينَ {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}؛ فَإِنَّ الْأَوْصَافَ كَثِيرًا مَا يُرَادُ بِهَا عِنْدَ أَهْلِ التَّخَاطُبِ صِنْفٌ مَخْصُوصٌ لَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يَتَلَبَّسُ بِالْفِعْلِ الَّذِي اشْتُقَّ مِنْهُ الْوَصْفُ. مِثَالُ ذَلِكَ لَفْظُ الْعُلَمَاءِ يُطْلَقُ الْآنَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمًا أَوْ عُلُومًا، وَلَوْ تَعَلَّمَ مَا يَتَعَلَّمُونَ وَفَاقَهُمْ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى زِيِّهِمْ وَمُشَارِكًا لَهُمْ فِي مَجْمُوعِ الْمَزَايَا الَّتِي كَانُوا بِهَا صِنْفًا مُسْتَقِلًّا، وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ عَلَى صِنْفٍ آخَرَ، وَأَجَابُوا عَنِ الثَّانِي بِأَنَّهُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ فَظَاعَةِ الشِّرْكِ وَالتَّغْلِيظِ فِيهِ وَكَوْنِهِ غَايَةَ الْبُعْدِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ قَضَى بِأَلَّا تَتَعَلَّقَ مَشِيئَتُهُ بِغُفْرَانِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ كُلَّ ذَنْبٍ سِوَاهُ لَفَعَلَ؛ إِذْ لَا مَرَدَّ لِمَشِيئَتِهِ، فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ إِذْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَيْسَ مُشْرِكًا يَغْفِرُ اللهُ لَهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ نَفْيَ الشِّرْكِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَسْتَلْزِمُ مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِمَنْ تَبْلُغُهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فَيَجْحَدُهَا عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا.